شيخنا من آل هاشم
اقتربت الانتخابات النيابية ,وزادت أعداد المرشحين .. لا أعلم أكانت طموحاتهم بالفوز طمعاً بالمنصب , أم أنه مساعدةٌ للشعب الذين انتخبهم ... ولكن كانت أوضاع البلد متوترة بسبب غلاء الأسعار على الشعب , وازدياد أعداد الفقراء , فلم يعد أي شخصٍ من أبناء مدينتي "السلـــط" قادراً على مساعدة جرحى إعصار الفقر .... ولكن السؤال الذي حيرني لفترة طويلة "أين أموال الشعب ؟ وأين تذهب تلك الضرائب كلّها ... ؟؟"
وفي يوم من الأيام دقّ عليّ البابَ زميلٌ أعرفه منذ زمن الطّفولة والشّباب .. لقد درس معي في مدارس الملك عبدالله الثاني للتميز وكان صديقاً مخلصاً وفياً وأميناً .. .
اقترح عليّ اقتراحه الغريب ... وسألني : "ما رأيك أن تكون مرشحاً في الانتخابات النيابية ؟"
فقلت له باستغراب : "كيف سأنجح ؟؟ وكيف أحلّي الناس ,وأنا بالكاد أطعم أولادي ؟؟" , فردّ عليّ :"أنت أهل البلد يعرفونك ويعرفون أمانتك وصلاتك التي لا تقطع , كما أنه ليس بالضرورة أن تحلي الناس , فإنّ من ينتخبك لا ينتخبك لأجل الحلوان , وإنما يكون قد عرفك أو سمع عنك ..." .
بدأت بالفعل صدى كلمات صديقي تُسمع في أذني , وأنا أحاول أن أتخيل كيف سأكون نائباً , وأساعد أهل مدينتي وبلدي .. .
وبالفعل .. سجّلت في اليوم التالي لكي أكون مرشحاً نيابياً .
وبعد التسجيل بيومين , ذهبت لأحضر "الشاي" من السوق فهو الأنسب لمرشحٍ لا يملك الكثير من النقود ويريد أن يضيّف ضيوفه , وبالصدفة سمعت أحد المارّين بالسوق يقول لزميله "أسمعت عن المرشح الذي لا يملك النقود , ويريد أن يجمعها بعد أن ينجح ..." .
كلمات ذلك الفتى حذفت كل أحلامي لأساعد مجتمعي , وأعادت قلبي إلى حالة بؤسٍ وتشاؤمٍ وقلق , فتوجّهت إلى بيتي شاردَ الذهنِ مشغولَ البالِ , وأنا أرى المرشحين في مقرّاتهم ومِن حولهم المنتخبون يهتفون لهم بأعلى أصواتهم مناشدين لمرشَّحِهِِم النائب , وهو يُقدِّمُ لهم ما لذّ وطاب من الحلويّات , بينما أنا ذاهبٌ للمنزل بكيسٍ من "الشاي" , فكان ذلك اليوم من أسوء أيامِ حياتي , بسبب الكآبة التي أطفأت نار قلبي المتوقدة للنجاح ... .
وعندما وصلتُ إلى البيت , وجدتُ أصدقائي وأولادَ عمّي فقط , فأحسست بالخجل منهم , ثُمَّ وضعتُ كيسَ الشاي على الطاولة وجلستُ مَعَهُم .
بدأنا نتحدث , حتى وصلنا بالحديث إلى المُزاحِ والضّحك , فذلك يقول :" ومن يُصَدِّقُ أنّ هذا مَقرٌ انتخابي لنائبٍ " , وآخر يقول :"أنا لم أُصدِّق أنك مرشحٌ حتى رأيتُ كيسَ الشاي بِيَدِك ..." .
لقد كان مُزاحُهُم ثَقيلاً , ولكنّهُ في الوقت ذاته كان جميلاً , حتّى صديقي الذي أشارَ إليَّ بذلك , بَدا وكأَنَّهُ لا يَعْرِفُ شيئاً عن الموضوع ! , وكان مِن أكثرِ الساخرين خِفَّةَ دَم ! .
كانَت لحظات جميلة ؛ فبعد الشدّة فَرج .. ومَع أنّهم كانوا قِـلّة , ولكنني وجدتهم أوفياءً جدّاً .. .
ثم قالوا بِجِدِّيَّةٍ بعد المُزاح : "لا تقلق نَحنُ معك وسنحاول نشر صِيتِكَ بينَ النّاس ونُعرّفهم بك .. , كيف لا ونحن مُتَورِّطون بذلك لأننا أصدقاؤك وأقاربك .. ؟! " .
وعاودوا السُّـخرية والمزاح والضّحِكَ من جَديد .
الجميل في الموضوع , أنّ الناس بدأت تزداد في بيتي , لأنّهم بحاجةٍ إلى شخصٍ مِثلهِم , يَعرِفُ صعوبةَ عيشهم ومشاكِلهم , ويُعيدُ الأمل المفقود إليهم ؛ فبدأت أعداد الناس تزداد بسرعة في البيت , وكانوا من أبناء " الـســــلـط " والمدن والقرى من حولها , حتى ذاع صيتي في المحافظات المجاورة , وذلك كلّه بِفَضلِ أصدقائي وأولادُ عمّي .
وبَعدَ فترة , أُعْلِـنَ عن أسماء النّواب الجُدد , وكنت أنا من بينهم , وجاء اليوم التالي , فذهبت وأنا بيدي دفترٌ عليه مجموعة طلبات من مختلف أفراد المجتمع , وكان أكثرها وأهمُّها هي مطالبة بنقل مصنع للاسمنت في مدينة مجاورةً للسَّـــلـط .
عندما جلس زملائي النُّـوابُ على المقعد , جاءَ مسؤولٌ وأمر بصرف مبلغ كبير للنواب الجُدد , لقد ظننته في البداية مُرتّب سنة أو نصف سنة , ولكنّه كان يدعى بِـ " مبلغ تحسين الأوضاع المعيشية " .
ربما كنت أنا أجدر وأحق الموجودين بأخذ هذا المبلغ ؛ إلا أنني شعرت بشيءٍ غريبٍ عندما أخذته , ولكني لم أعرف ما كان ذلك الشيء ... .
لقد انتهى الدّوامُ الرَّسمي لذلك اليوم , ولقد عَرف كل من النوابِ مكتبهُ وطبيعةَ عمله , وعندما خرجتُ من المجلسِ , وَجدتُ شخصاً أمامَ سيارة كبيرة لم أعرف نَوعها وقال لي " تفضل " ,
- في البداية ظننته أحد زملائي وليس سائقا - فأوصلني إلى بابِ بيتي بالسّــلـط فشكرته شكراً جزيلاً , فلم أكن أعرف أن ذلك واجب عليه .
وبعد الأسبوع الأوّل , طالبنا بحل قضايا المواطنين , ولكنِّ تلك القضايا اختفت ! ؛ ولم نعد نناقِـشَها ! , وكانَت أبرَزُها قضيّةُ ذلك المصنَع .. .
ولكن , لماذا كلّما طالبنا المجلس بشيءٍ ما , لا يقضيهُ لنا ؟؟ ؛ لقد شعرت وقتها بأنني أضيع وقتي , ولم أفعل شيئاً يستحق كل ذلك المال المقدم لي !! .
حتّى جاء يومٌ وقال لنا المسؤول " لا توافقوا على نقل ذلك المصنع فهذا سيكون دخلاً جيّدا لكم " ؛ عندها فقط عرفت ما هي الرشوة , فالمعذرة .. لم تكن تلك الكلمة واردةً في قاموسي , لأني أصلي .
يومها عدت إلى البيت وعرفت ما كل ذلك المال الذي قد قدم لي .. ؛ لقد أعطوني ذلك المال لِسَبَبَيْن :
الأول : لكي أنسى الجوع , ولكنهم نسوا أنّ رمضان يذكرني بطعم الجوع المر الذي ما زال بعض الشعب يذوقُه .
والثاني : لكي يكون جرما مشهودا عليّ بأنني أقبل الرشاوى فلا أستطيع أن أشكي عنهم أو أعارضهم لأني بذلك سأضر نفسي كما أضرهم , ولكنهم نسوا أنّ لي رب كبير لن ينساني .
ولكن بقي السؤال المحير " ماذا يجب علي أن أفعل ؟ " ؛ لقد قبلت الرشوة إلى حين أن أستطيع الإمساك بهم بالجرم المشهود ؛ ولقد مرّت الأيّام والأسابيع وموضوع المصنع ينسى من تفكيري يوما من بعد يوم .. .
وفي يوم من الأيام عدت متأخراً إلى البيت فوجدت امرأةً عجوزاً مع حفيدها تصرخ في وجه امرأتي , وتسألها أين زوجك النائب ؟؟
فعدت وسألتها : ما بك ؟؟
قالت : اليوم اذهب إلى أعلى مسؤول , وأعلمه بهذا المصنع السام الذي لم يتم نقله إلى الآن .
فقلت : حسنا اهدئي , سأذهب غدا .. .
فقالت : لا , اذهب الآن .
حاولت إقناعها أن أذهب باليوم التالي فلم ترضى , فقلتُ لحفيدها : وأنت ماذا ترى ؟
فقالت جدّتُه بصوتٍ حزين : هو لا يرى , لقد كُفَّ بصره , بسبب ذلك المصنع الذي يخرج أدخنة سامة أفقدته الرؤيا , نعم .. لقد فقد رؤيا العينين .. بسبب من فقد رؤيا القلوب ؛ لقد أعطيتك أمانة أيام فقرك , وهي أن تساعدنا بنقل ذلك المصنع ولقد عاهدتنا بذلك , فلماذا أخلفت وعدك الآن ؟
فقلت لها : المنصب يغري , أنا آسف , سترين كيف سينقل ذلك المصنع ولو على قطع رقبتي ..
فنظرت باستغراب وقالت : وأي قطع رقبة ؟؟
فقلت لها : آه .. يا ليتني لم أدخل غابة المسؤولين الذين يحملون الأمانة فتسقط منهم وسط الأشجار الكثيفة التي تعمي القلوب ولا يستطيع حملها إلّا القليل , الذين يحافظون على صلاتهم ويصومون رمضان .. ؛
آه .. يا ليتني بقيت في جبال السلط مع أهلي وأصدقائي البشر ... .
لقد أخبرتها بما حصل معي بالتفصيل , وخرجت من بيتي مسرعا وأنا غاضب .
لقد نزلت الدرج بقوة , لأنني ذاهبٌ لأعيد ما تبقى من الأمانة لأصحابها .
ذهبت إلى المحكمة وقلت كل شيءٍ عندي , وقال لي القاضي : بارك الله فيك .. "لسّا في بالدنية خير" , فقلت له : الحمد لله أننا بالأردن الحبيب نصوم شهر رمضان , والكثير منّا عرف الجوع بسبب ارتفاع الأسعار العالمي , فربما ضارة نافعة " .
وأمر القاضي أن أُحبَسَ مع اللذين أخذوا الرشاوى , فلم أنزعج بذلك القرار , ولكن المهم أنّي فَتَحْتُ صَفْحَةً لبدايةِ مكافحةِ الرشاوى في الأردن , وعملت واجبي وأخذت حق الطفل منهم وأخذ الطّفلَ حقه منّي بالحبس , فارتاح ضميري عندها قلت : " حسبي الله ونعم الوكيل " .
وبعد عدة أيام خرجت من السجن عن طريق تلك العجوز , التي ذَهَبَتْ هي إلى أعلى مسؤول أردني - ابن الهاشميين حفظه الله تعالى ورعاه - وأمر بأن أخرج من السجن , فارتحت بأن الله لم ينسى عبده وأخرجه من السجن على يد عربي هاشمي , بل وأكرمني الله أيضا بأن العجوز وحفيدها سامحاني على خطأي , وقد أمر جلالته بمعالجة حفيدها المريض على حسابه الخاص .
فخرجنا من سجن الجويدة ونحن نغني :
" و على طريق السلط ياما مشينا ..... أبيش أحلى من السلط مهما لفينا "
ثم جاء الإعلام لي ليسألني عن الذي حصل معي فقلت بيت من الشعر ذو معناً جميل لأشكر جلالة الملك عبدالله الثاني المفدى على مكارمه معنا :
" ليس فينا من يساوم وشيخنا من آل هاشم "
ملاحظة : أن تكون البطل , ليس أمرا مستحيلا في حياتك , المهم أن تؤمن بالله تعالى , وتحب وطنك ومجتمعك , وأن تصوم رمضان إذا كنت ستترأس مركزاً مهما .
كتب هــذه القـصة الطـالـب : معتـصم النـســـــــور
من الصــّف : العــــــــاشـــــــــــــــ( أ )ـــــــــــــــــر
من مدرسة : الملك عبدالله الثاني للتميّز / الســــــــلط
موضوع: قصة كتبتها للمسابقة النثرية , أتمنى أن تنال إعجابكم " شيخنا من ال هاشم " 
الأربعاء أكتوبر 08, 2008 9:23 pm
